يوم المرأة في أمريكا اللاتينية- بين المساواة وحقوق الأبوة المثيرة للجدل

كما هو معهود في دول أميركا اللاتينية، شهد اليوم العالمي للمرأة تظاهرات حاشدة وعارمة اجتاحت مختلف العواصم والمدن الرئيسية في المنطقة. وصدحت حناجر المتظاهرات بمطالبات ملحّة، داعية إلى تحقيق المساواة الكاملة، وإقرار الحق في الإجهاض الآمن، ووضع حدٍّ للعنف المتفشي والجرائم المروعة التي تستهدف النساء.
وبينما رفعت بعض المتظاهرات هذا العام، في عواصم الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك، علم فلسطين الغالي، في بادرة تضامنية نبيلة مع المرأة الفلسطينية الصامدة، برزت في المقابل بعض الأصوات النشاز التي تعيد إلى الأذهان ما يسمى بـ"حقوق" الرجل، وتتمادى في الانتصار له، بشكل يثير الدهشة والاستغراب. ومن بين هذه الأصوات، اقتراح تقدمت به نائبة في برلمان الأرجنتين، يطالب بمنح الرجل الحق في رفض الأبوّة لجنين لم يرغب فيه، تمامًا كما مُنحت المرأة الحقّ في الإجهاض.
إلغاء الروابط القانونية
هذا المشروع المثير للجدل، هو عبارة عن قانون اقترحته النائبة الأرجنتينية ليليا لوموان، المنتمية إلى حزب "الحرية تتقدم" الذي أسسه رئيس الأرجنتين الحالي، اليميني المتطرف خافيير ميلي، قبل سنتين ونصف. غير أن هذا الاقتراح اصطدم بمعارضة شديدة من مختلف الأحزاب، مما أدى إلى تجميده مؤقتًا.
ويقوم هذا الاقتراح، حسب النائبة لوموان، على تمكين الرجل من رفض أن يكون أبًا منذ اللحظات الأولى للحمل، وذلك بإبلاغ الأمّ بعدم رغبته في لعب دور الأب، بما في ذلك عدم منح لقبه للمولود، وعدم التكفل بمصاريف تربيته وتعليمه وعلاجه طوال 18 سنة، وفقًا للقانون الأرجنتيني الساري. وبالتالي، يكون للأمّ الحق الكامل في اتخاذ القرار، سواء بالاستمرار في الحمل والولادة ثم تربية الطفل بمفردها، أو بالإجهاض. وفي كلتا الحالتين، يتمّ إلغاء أي رابط قانوني بين الأب والابن البيولوجي.
وقد عللت النائبة اقتراحها هذا بحقيقة أن النساء يتمتعن بحق أصيل في اتخاذ القرار بشأن الإجهاض، ورفض دور الأمومة الذي يمكن أن تضطلع به الواحدة منهن، وذلك بمجرد قرار تتخذه بمفردها، دون الرجوع إلى الرجل. وتساءلت: "فلماذا لا نمنح الرجل هذا الحق أيضًا؟"
كما أشارت النائبة إلى وجود العديد من الحِيَل التي تلجأ إليها بعض النساء للحمل، حيث يقمن بخداع الرجل أثناء العلاقة، ثم يفاجئنه بواقع الحمل أو الإنجاب مباشرةً، ليجد نفسه بالتالي أمام الأمر الواقع، مضطرًا للاعتراف بالمولود والتكفل بمصاريفه. وأضافت أن هذه الحِيَل منتشرة على نطاق واسع في القارة الأميركية، وغالبًا ما يقع ضحيتها مهاجرو الشرق من الذكور، خاصةً إذا كانوا من أصحاب الثروات.
والواقع أن النائبة لوموان ليست بعيدة عن الأفكار المثيرة للجدل التي يتبناها زعيمها الرئيس ميلي فيما يتعلق بقضايا المرأة. فهي بالأساس "مؤثرة" على شبكات التواصل الاجتماعي، وقد اقتربت من الرئيس منذ حوالي سنتين، وكانت تعمل كمصففة شعر ومسؤولة عن "الماكياج" الخاص به. وقد اقترح عليها هو الترشح للانتخابات التشريعية، وفازت فيها عن دائرة العاصمة. ونتيجة لذلك، فإن أداءها السياسي غالبًا ما يكون شعبويًّا، على غرار أداء رئيسها.
عدو المرأة
أما بالنسبة للرئيس ميلي، فهو يعتبر "عدوًّا" لدودًا للجمعيات النسوية، منذ حملاته الانتخابية في عام 2021، حيث اعتبر ملف المرأة والبيئة مجرد "هراء" يتقنه اليساريون، بهدف استمالة الرأي العام واستقطاب الناخبين. وقد أكّد هذا الموقف بمجرد فوزه بالرئاسة، من خلال إلغاء وزارة المرأة.
يُضاف إلى ذلك، نيّته المعلنة في طرح استفتاء شعبي قريبًا، بشأن تجريم الإجهاض، الذي كانت حكومة فرنانديز السابقة قد شرّعته بشروط، في ديسمبر/ كانون الأول 2020، بعد مسيرة نضال حقوقي طويلة ومضنية دامت عقودًا من الزمن، قادتها الجمعيات النسوية وأغلبية فئات المجتمع الأرجنتيني.
وفي سياق قراراته الاستفزازية، أصدر الرئيس ميلي صباح يوم المرأة العالمي، مرسومًا رئاسيًا يقضي باستبدال اسم "صالون النساء" في القصر الرئاسي باسم "صالون الأبطال"، وهو ما أثار موجة غضب عارمة بين المتظاهرات في محيط البرلمان، وزاد من حدّة الشعارات المناهضة لأفكاره. في المقابل، يرى الرئيس ميلي أن المساواة التي تطالب بها النساء، لا تتحقق من خلال تفاصيل صغيرة لا تحمل أي معنى جوهري، مثل تسمية صالون في القصر باسم أو آخر، أو احتكاره للنساء!
وبالعودة إلى موضوع الأبوّة، لا بد من إثارة قضية مسؤوليات الآباء في المجتمعات اللاتينية، بدءًا من الاعتراف بالنسب ووصولًا إلى التكفّل بمصاريف الأبناء، باعتبار أن هذه المجتمعات تعاني من ارتفاع معدلات الحمل المبكّر، والحمل خارج إطار الزواج، والعلاقات الحميمية الفوضوية بشكل عام.
لذلك، من الشائع جدًا أن يكون بمثابة العُرف السائد في المؤسسات التعليمية، عدم سؤال التلاميذ عن آبائهم، مراعاة لمشاعر مجهولي النسب. ولعل العديد من لاعبي كرة القدم اللاتينيين المشهورين، هم خير مثال على ذلك، فأغلبهم مجهولو النسب.
اقتراح متطرف
وعلى الرغم من أن الأرجنتين تعتبر أكثر تنظيمًا من غيرها من دول أميركا الجنوبية فيما يتعلق بهذه الظاهرة، إلا أن هناك 1.6 مليون امرأة يعلنّ وحدهنّ قرابة 3 ملايين ابن، 50% منهم لا يتلقّون أي مساهمة مالية من قبل الآباء، حتى وإن كانوا موجودين. وتصل هذه النسبة في العاصمة بوينس آيرس إلى 70%.
قد يبدو اقتراح النائبة لوموان متطرّفًا إلى حد ما في نظر المجتمع الأرجنتيني والأوساط النسوية بشكل عامّ، لكن هناك العديد من الأفكار والأفعال الأخرى التي يمكن تصنيفها أيضًا في خانة التطرف والمبالغة في خطاب الانتصار للمرأة، كما حدث في عاصمة المكسيك.
فقد تصدّر وسم "المجنونات" منصة "X"، خلال فعاليات اليوم العالمي للمرأة، بعد تداول مقطع فيديو يظهر شابًا عشرينيًّا كان يجرّ دراجته النارية على أطراف مظاهرة نسائية، ويطلب من المتظاهرات السماح له بالمرور. وقد استجابت المتظاهرات لطلبه، باستثناء واحدة وقفت في وجهه ودفعته وأسقطت دراجته أرضًا.
وما إن ردّ الشاب على فعلتها بلكمة، حتى انقضضن عليه المتظاهرات، ومزقن قميصه وجرّدنه منه، إلى أن تدخلت الشرطة "النسائية"، التي كانت تحرس المظاهرة، وسط صيحات الفرح والتهليل بالانتصار. ثم أظهرت الصور اقتياد الشاب إلى سيارة الشرطة، وأكدت وسائل الإعلام أنه تم تغريمه بمبلغ مالي.
وعلى الرغم من أن المقطع كان واضحًا، إلا أن بعض وسائل الإعلام المشهورة اختارت له عناوين تُدين الشاب وتتهمه بالعنف. في المقابل، رأت شخصيات نسائية بارزة من مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي، رأيًا مخالفًا، وساندت الشاب وأبدت استعدادها لدفع الغرامة عنه، وإصلاح دراجته.
ومهما كانت مسيرة النضال النسوي في منطقة أميركا اللاتينية حافلة بالتحديات، ومهما كانت مطالبها مشروعة وعادلة، فإن ازدواجية المعايير لا تزال حاضرة بقوة في مجتمعات يُصنّف سوادها الأعظم في صفوف الذكوريين، وتطمح طبقاتها التقدمية إلى وضع حدٍّ لهذا التصنيف وإرساء قيم المساواة والعدالة بين الجنسين.
